ورقة مقدمه من: داوود تلحمي
حزيران / 2009
بعض المعلّقين على الإنفجار العلني، في مطلع الربع الأخير من العام 2008، للأزمة المالية والإقتصادية العالمية، التي انطلقت من الولايات المتحدة، وسبق وظهرت تجلياتها الأولى قبل عام على الأقل من هذا التاريخ، أجرى مقارنة رمزية بين هذه الأزمة بالنسبة للعالم الرأسمالي وبين انهيار جدار برلين بالنسبة لتجارب التحول الإشتراكي في الإتحاد السوفييتي والدول الأوروبية الشرقية التي كانت حليفة له.
وربما رأى البعض في معسكر اليسار المناهض للرأسمالية، عبر هذه الأزمة، احتمالات صعود متجدد للخيار اليساري، لشق طريق جديد نحو تجاوز النظام الرأسمالي والإنطلاق للتمهيد لمشروع تحول إشتراكي جديد، يستفيد من أخطاء وثغرات ونواقص التجربة السوفييتية، وخاصة في مجال المشاركة الشعبية في القرار وفي الإدارة، أي على صعيد تحقق الديمقراطية الشعبية الحقيقية، كما يتجاوز الرؤية الإرادوية، اللاتاريخية، لعملية الإنتقال المفترض نحو الإشتراكية.
ولكن العديد من كبار المثقفين والمحللين اليساريين الجذريين، أي المناهضين للنظام الرأسمالي، وخاصة أولئك المتابعين للشأن الإقتصادي، كما للأوضاع السياسية في مناطق العالم المختلفة، رأوا أنه، وبمعزل عن عمق الأزمة الإقتصادية الراهنة للنظام الرأسمالي، والتي يبدو أنه ليس من السهل تجاوزها بشكل كامل، فإن المعطيات لا تشير الى استعدادية قطاعات واسعة من الشعوب والفئات الإجتماعية المتضررة من هذه الأزمة، ومن سياسات النظام الرأسمالي عامةً، وخصوصاً من سياسات الليبرالية الجديدة والعولمة الرأسمالية التي انتشرت في أنحاء العالم في العقود الثلاثة الأخيرة خاصة، استعدادية للإنخراط في صفوف قوى وتيارات تطرح تجاوز النظام الرأسمالي وإعادة الإعتبار للخيار الإشتراكي، بصورته الجديدة، أي إشتراكية الديمقراطية الشعبية. هذا على افتراض توفر هذه الأطر التنظيمية الملائمة التي يمكن أن تستقطب الفئات المستعدة للإنخراط في هذه العملية النضالية في بلدان العالم المختلفة. وهنا علينا أن نستثني من هذا الحكم منطقة جغرافية واحدة، هي منطقة أميركا اللاتينية، التي بدأ فيها التمرد والإنتفاض على تطبيقات "الليبرالية الجديدة" منذ أواخر القرن المنصرم والسنوات الأولى للقرن الجديد، كما بدأت فيها تتبلور، وإن بشكل أولي، ملامح الخيار الإقتصادي - الإجتماعي الجديد، الذي أطلق عليه أصحابه تسمية "إشتراكية القرن الحادي والعشرين".
أما في مناطق العالم الأخرى، سواء العالم الرأسمالي المتطور وبلدان المركز الرئيسية، الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وبعض البلدان الأخرى القريبة منها، أو في باقي مناطق "العالم الثالث" أو "الجنوب"، فالوضع أقل استعداداً وأقل إمساكاً بأهمية الإستعداد، بالرغم من النشاطات الواسعة التي شهدتها قارات العالم المختلفة طوال العقدين الماضيين، وخاصة منذ أواخر القرن المنصرم، على صعيد التحركات المناهضة للعولمة الرأسمالية ولمؤسساتها الرئيسية، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وقمم الدول الصناعية المتطورة الخ...، وتلك الحركات المدافعة عن حقوق الشعوب وعن القطاعات المغبونة المختلفة في أنحاء العالم، كما عن البيئة البشرية عامةً، التي اضرت بها قرون من التطور الرأسمالي والصناعي المحموم وغير الآبه بالكلفة الكبيرة لهذا التطور على صعيد البشر والبيئة المحيطة بهم على حد سواء.
ومن الواضح أن الأمر سيستغرق وقتاً أكثر حتى يتبين لقطاعات المتضررين الواسعة من هذه الأزمة أن العلاج، حتى يكون ناجعاً، ينبغي أن يكون جذرياً في نهاية المطاف. أي ان الأزمة ليست فقط أزمة "الليبرالية الجديدة" ومظاهر التسيب والفوضى والجشع المقامر التي مارستها الطغم المالية المختلفة المسيطرة على الإقتصاد العالمي بشكل متزايد والميالة لاعتماد أشكال المضاربة والتلاعب بأموال الناس لتحقيق أرباح سريعة وضخمة لا تُقارن بالأرباح التي توفرها المجالات الإنتاجية الفعلية، وإنما هي أزمة تظهر هشاشة النظام الرأسمالي بمجمله، ببنيته الإقتصادية القائمة على مراكمة الأرباح وزيادتها في كفة قلة من الناس، متزايدة التضاؤل حجماً وعدداً مع مرور الزمن، ومراكمة الخسائر والتراجع في المداخيل ومستوى العيش لدى الغالبية الكبرى، التي تزداد أعدادها نسبياً في الوقت ذاته.
***
وربما تحقق هنا وهناك بعض التقدم أو بعض التحسن في أوضاع اليسار الجذري. ولكن المشهد العام لا يذهب بهذا الإتجاه، كما سنرى في الحديث عن المؤشرات التي توفرها، مثلاً، بعض العمليات الإنتخابية التي جرت في الأشهر والأسابيع الأخيرة في عدد من مناطق العالم، مع إدراكنا سلفاً لعدم دقة هذه المؤشرات لأسباب بالإمكان إيضاحها.
وفي البداية، لا بد من الإشارة الى أن نجاح أول مرشح رئاسي من أصل إفريقي في الولايات المتحدة والطروحات التي تقدم بها في مجالات مختلفة، سواء في المجال الإقتصادي أو في التعاطي مع القضايا والصراعات الدولية وسياسة الولايات المتحدة في العالم، هذا النجاح ساعدت عليه، جزئياً، تفاعلات الأزمة الإقتصادية في الولايات المتحدة، والتي أطاحت، وإن كان من الممكن أن تكون هذه الإطاحة مؤقتة، بالتيار الأكثر يمينية وعدوانية في الخارطة السياسية الأميركية والذي مثّلته إدارة جورج بوش الإبن. أي إن التغيير الذي حصل في الولايات المتحدة على صعيد القمة التنفيذية هو، بشكل نسبي، تراجع لليمين الأميركي المتطرف، وإن لم يكن من المتوقع أن يُسجّل كنجاح لأي يسار، حتى ولو ما يُسمى بيسار الحزب الديمقراطي الأميركي.
لكن الأهم من هذا التغيير الفوقي الذي له طابع تكتيكي وظرفي من قبل أصحاب القرار الأساسيين في هذا البلد الرأسمالي الضخم في المجالين الإقتصادي والإستراتيجي، هو التغيير الذي يمكن أن يحصل على صعيد وعي الشارع الأميركي، وهي مسألة غير مرئية وغير ملموسة حتى الآن.
ومن المفيد أن نذكّر أن الأزمة الإقتصادية العالمية الكبرى في ثلاثينيات القرن الماضي فتحت أبواباً لتطور مناخات يسارية في عدد من بلدان العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة، التي تنامت فيها في تلك الحقبة قوى اليسار الجذري والحركات العمالية والنقابية، لكن هذه القوى والحركات تعرضت بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة في مرحلة المكارثية والعداء للشيوعية والإتحاد السوفييتي، لعملية تصفية واسعة، تواصلت في المراحل اللاحقة بأشكال مختلفة، مثلاً ضد قوى التمرد الجذرية في أوساط الأميركيين من أصل إفريقي، خاصة في الستينيات الماضية. وربما كانت مفارقة الأزمة الكبرى الجديدة، في هذا السياق، أن يقود رجل من أصل إفريقي محاولة إخراج البلد من الأزمة واستعادة الرأسمالية الأميركية لعافيتها واستعادة الدور الإمبراطوري الأميركي العالمي لشيء من المصداقية النسبية، بعد أن بددها اليمين الأميركي المتطرف خلال السنوات السابقة، وبعد أن بدأ التفرد الأميركي بالسطوة العالمية يتراجع شيئاً فشيئاً لصالح تعددية قطبية بدأت ملامحها في الظهور خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة خاصة.
***
وإذا أخذنا القارة الأقدم ومهد التطور الرأسمالي الأول، القارة الأوروبية، فإن مستوى الوعي التاريخي الأكثر تقدماً في مجتمعات هذه القارة منه في الولايات المتحدة وتراكم خبرات وتجارب اليسار فيها لم يوفّرا بعد أرضية نهوض عام متجدد لليسار، بعد الإنعكاسات المأساوية لانهيار التجربة السوفييتية على وضع اليسار التاريخي في هذه القارة، من جهة، والتراجع الذي عانى منه، من جهة أخرى، بفعل هجمة مرحلة العولمة الليبرالية الجديدة في هذه القارة على قوى اليسار والنقابات العمالية منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات الماضية.
وإذا أخذنا ردات الفعل على الأزمة الإقتصادية العالمية، التي أصابت بقوة عدداً من البلدان الأوروبية، وخاصة بلداناً مثل أيسلندا وإيرلندا وإسبانيا وبلدان أوروبا الشرقية وجمهوريات البلطيق، ولم تترك البلدان الأخرى بمعزل عن تأثيراتها السلبية طبعاً، في مجال ارتفاع نسب البطالة وتزايد الفقر وتراجع وتائر الإنتاج والإستهلاك، فبإمكاننا أن نعتبر إذا أخذنا، كمؤشر تقريبي وأولي، انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة في 7/6/2009، أن قوى اليمين الرأسمالي التقليدية، وأحياناً بعض قوى اليمين المتطرف المعادي للهجرة الأجنبية وللإسلام (كما هو الحال بالنسبة لأحد الأحزاب الفائزة في هولندا)، هي التي استفادت في الأمد القصير من الجزع الذي أصاب قطاعات واسعة من الجمهور الشعبي نتيجة انعكاسات الأزمة. حيث حققت أحزاب اليمين الحاكمة في بلدان مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبولندا نجاحاً ملحوظاً في هذه الإنتخابات، في حين حققت أحزاب يمينية أخرى في بلدان تحكمها أحزاب التيار الإجتماعي الديمقراطي، أي ما يعرف بيسار الوسط، تفوقاً ملموساً على هذه الأحزاب الحاكمة، وهو ما حصل في بلدان مثل إسبانيا والبرتغال وهولندا والمجر، وطبعاً بريطانيا، حيث جاءت قوى اليمين في المرتبة الأولى قبل الأحزاب الحاكمة من يسار الوسط. ويمكن هنا تسجيل حالة استثناء رئيسية واحدة على هذه القاعدة هي اليونان، حيث حقق حزب "باسوك"، يسار الوسطن، نتائج متقدمة على الحزب اليميني الحاكم، حزب الديمقراطية الجديدة. ويمكن إضافة حالة خاصة أخرى في بلد صغير نسبياً مثل قبرص، حيث حافظ حزب اليسار الذي ينتمي إليه رئيس الجمهورية، حزب "أكيل"، نتيجة متناسبة مع قوته التاريخية المعروفة، في حين حقق أبرز أحزاب اليمين المنافس له نتيجة متقدمة أيضاً.
وعلى صعيد قوى اليسار الجذري، يمكن القول أن النتائج تفاوتت بين بلد وآخر، وإن كانت القاعدة العامة هي غياب النهوض المفترض في ظل أزمة إقتصادية طاحنة كهذه. فاليسار الجذري حقق نتائج معقولة في بعض بلدان جنوب أوروبا مثل البرتغال واليونان، وفي بلد من وسطها مثل جمهورية التشيك، بينما لم يحقق نتائج إيجابية في أحد معاقل اليسار التاريخية، إيطاليا، حيث لم يتمكن اليسار الجذري من الإبقاء على أي حضور له في البرلمان الأوروبي. وكذلك الأمر الى حد ما بالنسبة لليسار الجذري في إسبانيا، حيث كان النجاح في التمثيل متواضعاً ولم يشهد تطوراً يذكر عن الإنتخابات الماضية. أما في فرنسا، المعقل التاريخي الآخر لليسار الجذري في أوروبا، فقد برزت هناك ظاهرة ملفتة للإنتباه وجديدة الى حد معين بالنسبة للبلد، حيث جاء تجمع مدافع عن البيئة، يضم تيارات ورموز عدة من مناهضي العولمة الرأسمالية أيضاً وبقيادة حالة كاريزمية، ء في المرتبة الثالثة من حيث نسبة الأصوات بين أحزاب البلد، وبفارق ضئيل جداً عن الحزب الذي جاء في المرتبة الثانية، الحزب الإشتراكي، الذي شهد إحدى أكبر انتكاساته في العقود الأخيرة في هذه الإنتخابات.
وما يمكن قوله بشكل مختصر هو أن الشعور المتزايد بالقلق لدى قطاعات واسعة من الجمهور في البلدان الأوروبية لم يدفعها في هذه المرحلة الى خيارات جذرية، أي الى المطالبة بتجاوز النظام الإقتصادي الحالي، الرأسمالي، وهو خيار مجهول بالنسبة لها، حيث لم يعد هناك نموذج ملموس لما يمكن أن يكون عليه بلد يتخلى عن الرأسمالية، خاصة بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، الذي لم تكن بنيته السياسية، على أية حال، جذابة للجمهور في أوروبا الغربية، ناهيك عما جرى مع جمهور البلدان التي كانت تعيش تجارب تحول إقتصادي على النمط السوفييتي، والذي اتجه في غالبيته نحو اليمين. من جهة أخرى، تبقى بالنسبة للجمهور الأوروبي تجارب أميركا اللاتينية وآسيا (الصين، فييتنام،...) تنتمي الى "العالم الثالث" ولها سماتها الخاصة، ولم تحقق بعد نموذجاً لنظام متطور إقتصادياً وسياسياً واجتماعياً يمكن أن يكون معياراً جذاباً للمواطن الأوروبي، وإن كان هناك في بعض الأوساط الشعبية بعض التعاطف مع هذه التجارب، كلها أو بعضها. ولذلك، وخوفاً من المجهول، وإزاء وضع معيشي متدهور يوماً بعد يوم، ومستقبل مقلق غير مضمون، وغياب آفاق الخروج السريع من الأزمة، مالت قطاعات واسعة من الجمهور الأوروبي، بما في ذلك من الشغيلة والموظفين وصغار المنتجين، الى المراهنة على اليمين الحاكم، أو المجرّب سابقاً، والذي تمكّن في الماضي من تجاوز أزمات النظام الرأسمالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدون هزات كبيرة. وقد ابتعدت غالبية هذا الجمهور عن أحزاب يسار الوسط، في معظم الحالات، كما أشرنا، ربما لأن هذا التيار السياسي لا يملك ما يملكه اليمين من تعاضد وقوة دولية على صعيد تكافل رأس المال العالمي، الأميركي - الأوروبي – الياباني والبلدان الرأسمالية المتطورة الأخرى، وهو تكافل يبدو للجمهور أنه ضروري لكون اقتصاديات هذه البلدان متداخلة في عصر العولمة الرأسمالية، ولكون الأزمة أظهرت هذا التشابك الدولي الواسع بتمددها السريع من الولايات المتحدة الى بلدان العالم الرأسمالي المتطور الأخرى.
ويمكن هنا التدقيق بعض الشيء في الحالة الألمانية، وألمانيا هي طبعاً الإقتصاد الأوروبي الأكبر والبلد الأكثف سكاناً في الإتحاد الأوروبي: فقد حقق الحزب اليميني الرئيسي الحاكم، الإتحاد المسيحي الديمقراطي وحليفه البافاري، نتيجة متقدمة جداً على الحزب الإجتماعي الديمقراطي (حزب يسار الوسط). كما حقق حزب اليمين الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، نتيجة متقدمة، وإن أقل قليلاً من حزب "الخضر"، ولكن أكثر من حزب اليسار، المتشكل قبل عامين، والذي كان في استطلاعات الرأي في العام الماضي يبدو مرشحاً لاحتلال موقع الحزب الثالث في البلد. ومن المفترض، نظرياً، أن ضعف المشاركة في الإنتخابات، وهو ما كان عليه الحال في معظم البلدان الأوروبية خلال هذه الإنتخابات، بما في ذلك في ألمانيا، يعطي أفضلية للأحزاب ذات الهوية الواضحة، التي يلتزم أعضاؤها وأنصارها عادةً بالمشاركة في الإقتراع أكثر من الجمهور المتوسط المتأرجح في خياراته بين عدد من الأحزاب، فإن الصورة تبدو أكثر دلالة على صواب التقدير بأن المواطن الأوروبي، بشكل عام، لم يتجه نحو اليسار، باستثناء بعض البلدان القليلة التي أشرنا اليها أعلاه، حيث شهد بعض البلدان ثباتاً أو بعض التقدم في الوزن الإنتخابي للأحزاب اليسارية الجذرية، ولكن بقي هذا التقدم ضمن حدود معينة لا تؤشر لحركة شعبية واسعة بهذا الإتجاه، على الأقل حتى الآن.
***
أما في العالم الثالث، والمقصود تحديداُ بعض بلدان آسيا وبلدان إفريقيا عامةً، بما يشمل منطقتنا العربية، فإن الأزمة الإقتصادية في هذه المناطق تأتي لتتراكم فوق جملة من الأوضاع المتأزمة التي كانت تعيشها العديد من بلدان هاتين القارتين قبل انفجار الأزمة، سواء بسبب الفقر وقلة التطور أو قلة الموارد أو الفساد المستشري والإستغلال الخارجي المستمر، وهو ما ظهّرته في السنوات الأخيرة تلك المشكلات الناجمة عن أزمة الغذاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية. ويبدو من الصعب، حتى الأن، رصد صعود ملحوظ لليسار في هذه البلدان، إذا وجد، باستثناءات ظواهر محدودة لأوضاع بلدان محددة.
ويمكن هنا، مثلاً، أن نسجّل حالة جنوب إفريقيا التي شهد الحزب الحاكم فيها، المؤتمر الوطني الإفريقي، تنامياًً للتيار اليساري داخله وهو التيار الذي يدعو الى اهتمام أكبر بوضع المواطنين البسطاء وتجاوز التركيز السابق على التطور الإقتصادي العام للبلد (ماكرو-إكونوميك)، الذي هو في النهاية تطور يمس شريحة ثرية من البيض وبعض السود دون تحسن ملموس في وضع الغالبية الساحقة من المواطنين، وخاصة السود منهم.
وهناك بعض الجوانب المشتركة في وضع بلد عملاق مثل الهند، من زاوية كون التنمية الجارية هناك بوتائر عالية نسبياً في السنوات الأخيرة أفادت، بالدرجة الأولى، القطاعات العليا وبعض الفئات الوسطى، ولم توفر تنمية متكافئة لكافة قطاعات المجتمع. ولكن العملية الإنتخابية الأخيرة التي جرت في هذا البلد خلال شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو 2009 لم تقد الى تحولات لصالح اليسار، بل لصالح الحزب الرئيسي الحاكم، حزب المؤتمر الوطني الهندي، الذي قادت حكومته في السنوات الماضية عمليات خصخصة وتنمية وفق وصفات "الليبرالية الجديدة"، مما لم يستفد منه اليسار الجذري الذي دعم هذه الحكومة في سنواتها الأربع الأولى، وهو اليسار الذي يشارك في العملية الإنتخابية، والذي خسر الكثير من نوابه ومواقعه في هذه العملية الأخيرة، بحيث حقق أبرز أحزاب هذا التيار، الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) أضعف حضور له في البرلمان الهندي منذ العام 1967، أي عملياً منذ نشأة هذا الحزب في العام 1964. ومن المبكر الحكم إذا ما كانت هذه الظاهرة الإنتخابية عرضية أو أكثر عمقاً، حيث انها ارتبطت بجملة من الإشكالات التي حصلت بشكل خاص في ولاية البنغال الغربي التي يحكمها اليسار الجذري منذ أكثر من ثلاثة عقود، منذ العام 1977، بلا انقطاع. وكل شيء يتوقف على الدروس التي يستخلصها اليسار الهندي مما حصل في العملية الإنتخابية.
وتنبغي الإشارة هنا الى ظاهرة قد تتطور، وقد تتراجع، في بلد بهذا الحجم، خاصة إزاء تفاقم أوضاع سكان الريف، حيث يجري، في حالات عديدة، انتزاع الأراضي من المزارعين لصالح الشركات والمشاريع الكبرى. والظاهرة المقصودة هي ظاهرة العمل المسلح، وهي ظاهرة قديمة نسبياً، حيث بدأت منذ الستينيات الماضية بشكل أو بآخر، ولكنها شهدت انتعاشاً في السنوات الأخيرة بسبب ما ذكرناه من تنمية إقتصادية غير متكافئة يدفع ثمنها فقراء الريف بشكل خاص. ومن الصعب المقارنة على هذا الصعيد مع بلد متاخم أصغر كثيراً من الهند وأقل تطوراً، وكان يعيش وضعاً استبدادياً متخلفاً، مما فتح المجال أمام نمو الحركات اليسارية الجذرية في هذا البلد، بما فيها تلك التي مارست العمل المسلح ولقيت تجاوباً شعبياً واسعاً، والمقصود طبعاً هو النيبال، المملكة السابقة التي باتت الآن جمهورية.
***
أما في المنطقة العربية، فبالرغم من وجود سمات خاصة بكل بلد، إلا انه يمكن الحديث عن اتجاه عام يجعل التدهور في الوضع المعيشي، وفي الأوضاع السياسية والإجتماعية عامةً، يصب في الغالب لصالح اتجاهات دينية، استطاعت في العديد من البلدان العربية أن تستقطب الإستياء الناجم عن ممارسات السلطات الحاكمة لصالحها، فيما لم تتمكن قوى اليسار، في غالبية الحالات، من أن تلعب دوراً بارزاً، حتى في البلدان التي كان فيها حضور قوي لهذا اليسار في مراحل تاريخية سابقة. فقد عانى اليسار العربي عامةً من جملة من العوامل الذاتية والموضوعية، من بين أبرزها انعكاسات انهيار تجربة الإتحاد السوفييتي، الذي كان يُعتبر مرجعاً نظرياً وسياسياً وسنداً هاماً لغالبية اليسار، ومصدر دعم لبعض القوى الحاكمة، في المنطقة العربية.
وإذا كانت القوى الإستعمارية القديمة والجديدة قد استخدمت بعض القوى الدينية في المنطقة العربية- الإسلامية في الماضي في صراعها مع الإتحاد السوفييتي ابان ما يُعرف بـ "الحرب الباردة"، كما حصل على سبيل المثال في حالة مواجهة القوات السوفييتية في أفغانستان بين العامين 1979 و1989، فإن من غير الدقيق التعامل مع كافة القوى الدينية في منطقتنا بنفس المعيار. فهذه القوى ليست متجانسة في مواقفها السياسية وفي مستوى تطور وعيها السياسي. فالفرق شاسع، مثلاً، بين حزب الله في لبنان وبعض القوى الأصولية المنغرسة في الماضي وقليلة الوعي بمجريات الأمور في المحيط الإقليمي والعالمي، والتي شارك بعضها في الحرب التي دعمتها الولايات المتحدة على الوجود السوفييتي في أفغانستان، وانتقل بعضها لاحقاً الى مواقع العداء للولايات المتحدة. هذا وتتعاطى أطراف سياسية دينية أخرى مع الأوضاع في بلدانها والمنطقة بأساليب براغماتية، متفاوتة الفعالية بين بلد وآخر، بما في ذلك في التعاطي مع تحديات الهجمة الإمبريالية على المنطقة العربية – الإسلامية محاولات الإستحواذ على مواردها الطبيعية، وخاصة النفط والغاز الطبيعي.
وإذا أخذنا الإنتخابات اللبنانية التي جرت في مطلع حزيران/يونيو 2009، على سبيل المثال، ونحن هنا نتحدث عن بلد صغير نسبياً واستثنائي في المنطقة من حيث تركيبته المتنوعة على الصعيد الديني والمذهبي، نرى أن الإصطفاف اتخذ في غالب الحالات طابعاً طائفياً ومذهبياً في هذه الإنتخابات، بمعزل عن مستوى التطور الثقافي والإقتصادي المتقدم نسبياً لهذا البلد مقارنة ببلدان أخرى في المنطقة. ويمكن تسجيل ملاحظات شبيهة حول الوضع في العراق، مع فارق وجود أقلية قومية واضحة المعالم، هي الأقلية الكردية، وضعف حضور الأقليات الدينية والإثنية الأخرى غير الطائفتين الكبريين، الشيعية والسنية، واستمرار الوجود الإحتلالي الأميركي.
ومن المبكر الخروج بأي استنتاج عن تنامي أي طرف يساري في مجمل هذه المنطقة بفعل الأزمة الإقتصادية، التي لا تُلمس، على أية حال، سوى كونها مفاقمةً أو تطوراً كمياً إضافياً على أوضاع مأزومة سابقة تعيشها غالبية بلدان المنطقة، كما سبق وذكرنا. ويلفت الإنتباه هنا أيضاً تنامي تيار ديني براغماتي وصل الى سدة الحكم في بلد إسلامي مجاور للمنطقة العربية ولأوروبا على حد سواء، وهو تركيا، في ظل نظام موروث منذ تأسيس الجمهورية التركية في العشرينيات والثلاثينيات الماضية على يد كمال أتاتورك يقوم على العلمانية وعلى التوجه نحو الغرب. وقد تنامت النزعة الدينية في السنوات الأخيرة في هذا البلد بالرغم من كونه شهد تطوراً إقتصادياً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة وضعت البلد في مرتبة متقدمة (المرتبة 15) من حيث حجم الناتج القومي الداخلي الإجمالي.
***
ويبقى أن نشير، أنه، بمعزل عن قدرة النظام الرأسمالي على تجاوز الأزمة الإقتصادية الراهنة، وهذا احتمال وارد، إلا أن هذا التجاوز لن يزيل، على الأغلب، عناصر الإختلال التي قادت الى هذه الأزمة، والتي يمكن أن تتجدد بأشكال أخرى، وربما حتى بصيغ أكثر حدةً في مراحل قادمة. ومن المفترض أن يكون اليسار في العالم، بالتالي، أكثر استعداداً في السنوات القادمة لاستقطاب هذه الظاهرة وتحويلها لصالح مشروعه الجذري، أي لصالح تجاوز النظام الرأسمالي ولصالح التحول نحو توفير مقدمات الإنتقال نحو نظام أكثر عدلاً على الصعيد العالمي، وباتجاه المساهمة في هذه المهمة الكبرى لرسم معالم ما أسماه طليعيو أميركا اللاتينية "إشتراكية القرن الحادي والعشرين".
وفي هذا السياق، أعتقد أن ما طرحه المفكر اليساري المصري البارز سمير أمين في إحدى مداخلاته في أواخر العام 2008 حول المهمات المباشرة لقوى اليسار والقوى الشعبية في المرحلة الراهنة يبقى مهما. ويمكن تلخيصه بالعناوين التالية:
- العمل على إعادة تنظيم وحدة الشغيلة في كل بلد عبر إيجاد أشكال تنظيمية ملائمة للمرحلة الجديدة، التي ستبقى، على الأرجح، تتميز بتنامي نسب البطالة وغياب الإستقرار في فرص العمل وفي الوضع الإقتصادي عامةً. والأشكال التنظيمية المقصودة هنا تشمل الجانب السياسي كما الجانب النقابي. ويمكن، على هذا الصعيد، متابعة بعض التجارب الجارية حالياً في بعض بلدان أميركا اللاتينية وبعض أشكال التحرك النقابي والسياسي الأكثر تقدماً في البلدان الرأسمالية المتطورة.
- تعميم ممارسة الديمقراطية الشعبية في هذه الأطر، والعمل على مجابهة سعي القوى الرأسمالية المسيطرة لفرض تفتيت المجتمع وتنمية النزعات الفردية والإنكفائية عن الفعل السياسي والإجتماعي، وتشجيع المواطن للإندفاع في البحث عن الخلاص الشخصي في ظل فرض أجواء من المنافسة المتزايدة على فرص العمل، المتقلصة.
- التركيز على مناهضة حلف شمال الأطلسي وكافة البنى العسكرية المرتبطة بالمشاريع الإمبريالية التوسعية الكونية والإقليمية، بما في ذلك الآلة العسكرية الإسرائيلية في منطقتنا، والتي يتم استخدامها كأداة ضاربة بيد هذه القوى، التي تسعى لإدامة هيمنتها وتكريس نظام من "الأبارتايد" الكوني بين "الشمال" الغني المتمتع بالرخاء النسبي و"الجنوب" الفقير والمستغلة موارده الطبيعية لصالح هذا "الشمال".
- من مصلحة القوى الشعبية وقوى اليسار في البلدان الرأسمالية المتطورة، برؤية استراتيجية لمصالح شعوبها، أن تتسلح بموقف أممي متضامن مع "الجنوب" وشعوبه، وليس مدافعاً عن الإمتيازات قصيرة الأمد التي تتحقق لسكان "الشمال" من عملية الإستغلال المستمرة لـ"الجنوب". ومن هنا، أهمية التأكيد على أن مناهضة الإمبريالية عنوان رئيسي من برنامج اليسار في المرحلة الراهنة والمراحل القادمة، سواء أكان ذلك في بلدان "الشمال" المتطورة إقتصادياً، أو في بلدان "الجنوب"، بطبيعة الحال.
- وفي هذه البلدان الأقل تطوراً، بلدان "الجنوب"، هناك أهمية كبرى للدفاع عن الموارد الطبيعية المتوفرة وتنمية الزراعة في الريف لتأمين أعلى درجة من الإكتفاء الذاتي أو من التكامل على صعيد إقليمي، في هذا المجال كما في مجالات التنمية الأخرى، كما تحاول أن تفعل بلدان أميركا اللاتينية الأكثر تقدماً في تجاربها على هذا الصعيد، من خلال مؤسسات إقليمية مشتركة مثل تحالف "ألبا"، "البديل البوليفاري للقارة الأميركية"، وبنك الجنوب "بنكوسور"، البديل المفترض للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي. وهذه القاعدة مفيدة، بالطبع، للمنطقة العربية، حتى لو كان ذلك على صعيد مناطق أو تجمعات إقليمية جزئية متقاربة.
- العمل من أجل نظام عالمي أكثر عدالة قائم على تعددية القطبية وعلاقات دولية أكثر إنصافاً ونظام إقتصادي لا يتحول الى غطاء لمصلحة دولة أو مجموعة قليلة من الدول بشكل خاص، وهذا ما يشمل ضرورة العمل على توفير عملة دولية، أو سلة من العملات، مستقرة نسبياً لا يجري التلاعب في قيمتها من خلال زيادة الكمية المتوفرة في السوق دون غطاء فعلي، كما درجت الولايات المتحدة أن تفعل خلال العقود الأخيرة، خاصة منذ مطلع السبعينيات الماضية.
***
وعلى الصعيد الفلسطيني، لا شك أن التبعية الإقتصادية للدولة القائمة بالإحتلال، إسرائيل، التي هي جزء من النظام الرأسمالي الإمبريالي العالمي، تضع عوائق كثيرة أمام تطور المجتمع الفلسطيني وتنمية طاقاته، بما في ذلك في مجال الزراعة، الذي لا زال مجالاً مهماً في خارطة الإقتصاد الإنتاجي الفلسطيني، وما زال يتعرض لمنافسة غير متكافئة مع سلع الدولة القائمة بالإحتلال.
ومن مهمات اليسار الفلسطيني الرئيسية، بالتأكيد، الى جانب المشاركة الفاعلة في النضال التحرري الوطني بهدف إنهاء الإحتلال وتحقيق الإستقلال الوطني وإزالة الغبن اللاحق بالشعب الفلسطيني، بما في ذلك بملايين اللاجئين منه، داخل الأرض المحتلة وخارجها، من بين هذه المهمات الدفع باتجاه تنمية اقتصاد وطني مقاوم ومستقل، قدر الإمكان، يؤمن شيئاً فشيئاً فك الإرتباط مع الإقتصاد الإسرائيلي وينفتح على بلدان المحيط القريبة. كما من الضروري والحيوي لقوى اليسار الدفاع عن مصالح وحقوق الفئات الشعبية المتضررة من استمرار الإحتلال ومن غياب التنمية أو استمرار الإعتماد على التمويل الخارجي، وتنامي شرائح رأسمالية وبيروقراطية تابعة مستفيدة من علاقاتها مع رأس المال الخارجي، حتى ولو كان على حساب الإقتصاد المحلي وآفاق تنميته وصعوده.
ومهما كانت أهمية الوحدة الوطنية في مرحلة التحرر الوطني، وهي بالتأكيد قضية مركزية في وضعنا الفلسطيني خاصةً، فإن اليسار في الحركة الوطنية ينبغي أن يحافظ على دور متميز في مجال الدفاع عن مصالح وحقوق الفئات المغبونة، من قطاعات الشغيلة والمزارعين وأصحاب المشاريع الصغيرة والعاطلين أو شبه العاطلين عن العمل.
وحتى ولو كانت الأزمة الإقتصادية العالمية بآثارها الفعلية غير ملموسة للمواطن العادي، الذي يعاني، على أية حال، منذ سنوات طويلة من تردي أوضاعه المعيشية والحياتية، فإن دور اليسار هو، بالتأكيد، تشخيص هذه الآثار، الى جوانب العوامل الأخرى الحاضرة قبلها، والتي من المفترض أن يكون هذا اليسار هو الطرف الأكثر اهتماماً بالتعاطي معها ومعالجتها، أو التنبيه ومحاولة التأثير على أصحاب الشأن والقرار لمعالجتها أو الحد من انعكاساتها السلبية على القطاعات الشعبية الفلسطينية الواسعة.
No comments:
Post a Comment