ورقة مقدمه من: امير سادر
امريكا اللاتينية – البرازيل
حزيران / 2009
أزمة السيطرة على نظام الحكم في أمريكا اللاتينية
بعد أن كانت القارة التي ولدت فيها الليبرالية الجديدة، في تشيلي بواسطة بينوشيتا وفي بوليفيا بواسطة بازارنستو وبعد أن تم تعميم هذا النموذج على كل القارة تقريباً بحيث شمل ذلك قوى وطنية واشتراكية ديمقراطية بحيث تم إنتاج قارة ليبرالية جديدة، إلا أن المنطقة قد تحولت بعد سنوات قليلة إلى المنطقة الأكثر مقاومة لليبرالية الجديدة في العالم: ففي فترة رئاسته الأولى لم يستقبل احد في أمريكا اللاتينية الرئيس السابق كلينتون إلا في المكسيك ورغم انه تم في تلك الفترة توقيع معاهدة التجارة الحرة، والآن عندما يزور الرئيس بوش أمريكا اللاتينية لا يجد من يستقبله، فكل دولة تشكل بؤرة مشاكل بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأنه ومع مرور الوقت تزداد الحكومات التي تتحرك بشكل أو بأخر خارج مظلة السيطرة الأمريكية في واشنطن .
أن صفة هذا العصر هي عدم الاستقرار وعدم ثبات الحكومات الليبرالية الجديدة أو البديلة، ويشبه ذلك رغبة القديم في البقاء في وسط الجديد، بينما أن الجديد يجد صعوبات للولادة. وكذلك عندما لا يستطيع الموجودون في القمة الحكم كما في السابق والموجودون في الأسفل لا يريدون أن يستمروا محكومين من أولئك الموجودون في القمة ولكنهم لا يملكون القدرة الكافية لحكم أنفسهم ولا يملكون البدائل الخاصة بهم. أن هذا يشكل أزمة وجهة سياسية بل هو أكثر من ذلك أزمة السيطرة على طريقة الحكم، بحيث لا يستطيع محور الحكم السابق ترسيخ قواعده والاستمرار في الحكم بينما أن البدائل لا تستطيع لحد الآن إيجاد وتثبيت قواعد الدعم الخاصة بها.
في هذا السياق نتحدث عن أزمة نظام الحكم التي تؤثر على شعوب أمريكا اللاتينية، وهذا يشكل الأساس الأخير لعدم الاستقرار بحيث تتشكل حكومات وبعدها حكومات أخرى في دول مثل الإكوادور وبوليفيا والأرجنتين وفي فترات زمنية قصيرة وأمثلة الحكم في فنزويلا وبوليفيا تمثل مادة دسمه للتعلم حول طرق وصعوبات الحكم التي تواجها.
مع ظهور حكومات لولا في البرازيل وتاباري فاسكيز في الاوروغواي فان أزمة السيطرة على نظام الحكم التي تواجها شعوب أمريكا اللاتينية منذ انتهاء الليبرالية الجديدة تصل إلى اليسار فالحكومات التي تم انتخابها على أساس معارضتها للسياسات الليبرالية الجديدة والتي كانت تشكل تاريخياً اليسار في بلادها تنتصر وتهزم الأحزاب التي تمارس السياسات الليبرالية الجديدة، ولكن هذه الحكومات لا تخرج من محور هذا النموذج من السياسات. ففي الأرجنتين وبالرغم من المبادرات الشجاعة للرئيس نوربيرتو كيرشز مثل إعادة هيكلة الديون الخارجية ومعارضته لرفع أسعار الوقود فان حكومة الرئيس كيرشز لا تطبق سياسة اقتصادية مختلفة عن النموذج الليبرالي الجديد. وكذلك فان التحركات في الشارع تشكل جزء من هذه الأزمة وذلك لمحاولة تبديل القوى السياسية بتحركات اجتماعية كما حصل في الإكوادور، حيث أن التحركات الشعبية أسقطت الحكومات التي تطبق سياسات غير شعبية ووصلت إلى القصر الرئاسي وشكلت الحكومات في أكثر من مرة وبعدها تشعر هذه التحركات الشعبية إنها تعرضت لخيانة وتعود إلى المعارضة. وكذلك مشاكل الانقسام في الحركات الهندية الحمراء ومعضلة الانضمام إلى الطرق المؤسساتية بحيث يتم ربط هذه الحركات الاجتماعية مع القوى السياسية أو الانضمام إلى بدائل ضد المؤسساتية وذلك مثل استخدام المشاكل التي تواجه الهنود الحمر في تشياباس وثورة الزاباتيستاس وتعميم هذا النموذج على كل الشعب المكسيكي حيث الحاجة الى عمل سياسي على مستوى الوطن والى نظام جديد والى الحاجة الملحة لتشكيل نظام متجانس بديل وعلى مستوى كل الوطن. وهذا يعتبر بمثابة محاولة أخرى لملئ الفراغ الناتج عن أزمة نظام الحكم في القارة .
أن نموذج نظام الحكم في الرأسمالية المعاصرة هو الليبرالية الجديدة، فاليسار يتجه إلى مقاومة ومعارضة الليبرالية الجديدة فمن الضروري لكي يصبح الإنسان يساري أن يكون قبل كل شيء ضد الليبرالية الجديدة بالإضافة إلى كونه ضد مبادئ وأسس الليبرالية الجديدة والرأسمالية وطرق ما بعد الليبرالية الجديدة، فلم يكن وليد الصدفة أن حدد المؤتمر الاجتماعي العالمي بكل قواه المتعددة معارضة الليبرالية الجديدة كعامل موحد أساسي له .
إن النموذج الليبرالي الجديد شجع على تحكم رؤوس الأموال في كل المجتمعات اللاتينية الأمريكية، فقد تم تطبيق مسيرة رأسماله دولنا بحيث شمل ذلك كل مجالات الحياة وحتى الدولة، بحيث تم إضعاف دور الدولة في التمويل والسيطرة وتضاعفت البطالة واستغلال العمال بكل الطرق.
وكذلك تم إيجاد تغيرات جذرية في موازين القوى بين فئات الشعب وذلك لصالح رؤوس الأموال المحلية والعالمية ضد طبقة العمال والكادحين، فقد جدد اليمين قيمه وقواه وطرق عمله بحيث شكل انفراد بالسلطة لم يكن له مثيل في السابق .
إن رأسمال المادي لا يستطيع بناء القواعد الاجتماعية الداعمة لشرعية وجودة في السلطة، فهو لا يخلق فرص عمل ولكن بالعكس من ذلك يعمل على إلغاء فرص عمل قائمة، ولا يوزع الأموال بشكل عادل بل على العكس من ذلك يجمع الأموال في أيد فئة قليلة، ولا يدعم الحقوق الاجتماعية بل على العكس من ذلك يضعفها. إن الرأسمالية تجعل من التجار الصغار والوسط ضحايا لها، فالقواعد المادية لمسيرتها في إعادة الإنتاج تسمح في أحسن الأحوال بجرف قطاعات رأس المال الكبير باتجاه الاستغلال والاستهلاك الكبير.
كيف يجد هذا النموذج قاعدة دعم له؟ في المكان الأول باستخدام الدعم المرتبط برأس المال الكبير والذي يشارك بشكل جزئي أو كامل عملية تجميع رؤوس الأموال للطبقات الشعبية بحيث يصعب عليها تكوين قوى اجتماعية وسياسية، وكذلك تتمتع بدعم الديكتاتوريات الأيديولوجية لوسائل الإعلام الخاصة، حيث يلعب التلفاز دور حاسم في هذا المجال.
وعلى ذلك نجد أنه يوجد دعم ثلاثي لهذا النموذج: بالطبقات المنتفعة اقتصاديا والدعم الإعلامي لوسائل الإعلام الخاصة والمحتكرة لهذا القطاع وأخيرا تقسيم وتجزئة الطبقات المرتبطة بعالم العمل.
وعليه فان نظام السلطة هذا يؤسس على قاعدة تجزئة المجتمع وفي الوسائل الأيديولوجية حيث يجد الدعم الكبير في هذين العنصرين.
في دائرة تطبيق هذا النظام المالي حصل العالم على نجاحات اقتصادية سريعة، وامتلك زمام المبادرة باستخدام خطط إصلاحية مستفيد من عدم الانتظام الاقتصادي لنقل التضخم وتحويله إلى عجز كبير جدا في ميزان الحكومات، مما أوصل الدول الأمريكية اللاتينية إلى حد الإفلاس وزاد من اعتماد هذه الدول على المؤسسات المالية الدولية.
إن محاور هذا النموذج الاقتصادي تكمن في استقرار العملة بعد موجة التضخم الخارجة عن السيطرة، وكذلك في دعم الفئات المسيطرة من كبار رجال الأعمال والمؤسسات المالية والتجارية الدولية وكذلك دعم وسائل الإعلام الخاصة لهذا النموذج. وكذلك يعتمد على بعض الأطراف من اليسار التقليدي وكذلك على تجزئة المجتمع بطبقاته الشعبية عن طريق البطالة والتوظيف وظروف العمل السيئة.
وبالرغم مما ذكر سابقا ومن موجة الغبطة التي شعر بها إتباع هذا النموذج في أواسط التسعينيات، مستفيدين من انتهاء الدور الاشتراكي ومن تعاظم دور الاقتصاد الأمريكي لفترة قصيرة وعلى أساس الأوهام بإيجاد اقتصاد جديد، فان استمرار الأزمة أدى إلى نهاية هذا النموذج. في المكان الأول الأزمة المكسيكية عم 1994، وبعد ذلك الأزمة البرازيلية عام 1999 والأزمة الأرجنتينية عام 2001. وهذا يوضح أن أكبر ثلاث اقتصاديات في القارة تعرضت للأزمة بسبب تطبيق النموذج الجديد، وذلك بعد أن تم اعتبار المكسيك نموذج للنجاح من قبل المؤسسات العالمية وبعد أن اعتبرت الأرجنتين نموذج معبر عن الليبرالية الجديدة في القارة.
عدة حكومات – أكثر من عشرة – تم استبدالها في السنوات الأخيرة في أمريكا اللاتينية والكاريبي – في دول مختلفة مثل الأرجنتين والأكوادور وبوليفيا والبيرو وذلك يشكل دليل على انتهاء النموذج الليبرالي الجديد وهذه الحكومات هي حكومات وعدت بالخروج من هذا النموذج ولكن لم تقم بذلك أو استمرت في تطبيقه. فكل هذه الحكومات تفقد شرعيتها بسرعة كبيرة وتتعرض لضغط التحركات الشعبية حتى تصل إلى الاستقالة.
إن هذه الأزمات أدت إلى انتهاء هذا النموذج بالرغم من اعتماده على قواعد اجتماعية محددة ومحصورة لأن نظام سلطة رأس المال لا يبني قواعد اجتماعية واسعة لتمرير شرعية معتمد عليها. وعلى العكس من ذلك فان النموذج الاقتصادي الذي يبنى على أساس رأس المال واستغلال الاستهلاك الخاص بالطبقات العليا من السوق ولا يشترط توزيع الدخل ويحاول زيادة قدرات الاستهلاك للطبقات الشعبية والوسطى لن تكون له قواعد شعبية.
بهذه الطريقة تكونت أزمة السيطرة على نظام السلطة في أمريكا اللاتينية، بحيث يكون هناك نزاع بين الجديد والقديم، بين نموذج استنفذ ويحاول البقاء وبين عالم جديد لم يجد حتى الآن طرق وجود للحلول مكان ذلك النظام القديم والمنتهي. وعليه فان أمريكا اللاتينية قد تحولت إلى منطقة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الأولى في العالم، وذلك كما يظهر جليا في سقوط عشرة حكومات في السنوات الأخيرة، ولم يسقط أي منها بسبب انقلاب عسكري ولكن كلها لفقدانها شرعيتها الاجتماعية وبسبب ضغوطات التحركات الشعبية في إطار القانون المعمول به.
إن اليسار التقليدي في أمريكا اللاتينية قد انقسم بالنسبة للنموذج الليبرالي الجديد في البداية عندما كانت زمام الأمور في أيدي اليمين وحتى أقصى اليمين كما في مثال بينوشيت، فان اليسار أعلن معارضته لهذا النموذج. ولكن من اللحظة التي اعتمدت الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية من خلال الأحزاب الاشتراكية في فرنسا واسبانيا هذا النموذج وكما أكد على ذلك إعلان واشنطن، فان اليسار الأمريكي وخاصة الجهات الوطنية والاجتماعية الديمقراطية اعتمدت هذا النموذج.
إن هذه العملية ابتدأت مع تطبيق كل من كارلوس منعم وكارلوس اندريس بيريز وسالينا سدي جورتاري لهذا النموذج. إن الاشتراكيين التشيليين والمتحالفين مع الديمقراطيين المسيحيين والذين خلفوا بينوشيت في الحكم استمروا في تطبيق النموذج الموروث. وكان أتباع حكومة فيرناندو هنريكي كاردوسو في البرازيل لهذا النموذج استكمال لهذه العملية، وهكذا اتفقت كل الأحزاب السياسية وبالإجماع على هذا النموذج الليبرالي الجديد.
ولكن فوز لولا في البرازيل وتاباري فاسكيز في الأوروغواي أنهى دائرة الانضمام لهذا النموذج، وذلك من قبل قوتين كانتا تلعبان دورا أساسيا في مقاومة هذا النموذج الليبرالي الجديد في العقود السابقة. ومع ذلك، فان أمريكا اللاتينية كانت المنطقة الأكثر تطبيقا للنموذج الليبرالي الجديد في العالم. ومع بعض الاستثناءات مثل كوبا وفنزويلا، يمكننا القول أن هذا النموذج انتشر على عرض وطول القارة، بحيث أصبحت أمريكا اللاتينية مختبر تجارب للنموذج الليبرالي الجديد في البداية وبعدها أصبحت منطقة مميزة باستخدام هذا النموذج.
إن اليسار الذي كان موجودا في أمريكا اللاتينية حتى ذلك الوقت اثبت أنه لم يكن مهيأ لوضع مشاريع بديلة للنموذج الليبرالي الجديد أو لم يكن مهيأ لوضع مشاريع بديلة للنموذج الليبرالي الجديد أو لم يكن يمتلك القوة الكافية لتطبيق هذه البدائل. الاستثناءات كانت في حكومات مثل كوبا وفنزويلا والآن بوليفيا مع احتفاظ كل منها بخصوصياته. فالحكومة الكوبية هي نتاج لمسيرة ثورية حطمت قواعد النظام الرأسمالي والامبريالية في تلك الدولة. أما الحكومة البوليفارية في فنزويلا فقد اعتمدت على عاملين خاصين – الثروات الطبيعية ودعم القوات المسلحة. وكذلك فانه لم يتم في فنزويلا اعتماد النموذج الليبرالي الجديد بالرغم من المحاولات الفاشلة لذلك من قبل حكومات كارلوس اندريس بيريز ورفائيل كالديرا. ان الحكومة البوليفية لايفو موراليس هي الأولى في ارث مجتمع عانى كثيرا من النموذج الليبرالي الجديد والذي يحاول وبشكل صريح تجاوز هذا النموذج.
لمعرفة المشاكل التي كان يواجهها اليسار في الفترة التاريخية المسيطر عليها من قبل نظام السلطة الامبريالي والأمريكي والنموذج الليبرالي الجديد يجب التأكيد على أن نضال اليسار يجب أن ينصب ليواجه سيطرة هذا النموذج.
ويشكل هذان المحورين الرئيسين للسلطة المسيطرة في عالم اليوم وهما قوة المال وقوة السلاح وقوة وسائل الإعلام. فأي مشروع حكم بديل يجب أن يأخذ بالاعتبار هذين المحورين، يمكن القول بأن الحكومة البرازيلية تطبق المحور الثاني في سياستها الخارجية، وبالرغم من وجود مشاكل حتى الآن، ومنها الموقف من هايتي الذي يعتبر الأكثر خطورة. وليس كذلك ما هو متعلق بالمشروع التجاري الذي يتصف به النموذج الليبرالي الجديد ودون الخوض في تحليل إمكانية إعادة هذه النماذج في دول أمريكا اللاتينية نحاول إيجاد الأسباب التي أدت إلى وجود اليسار الأمريكي اللاتيني في الوضع المذكور سلفا والتي تمثل نضال اليسار الأمريكي اللاتيني ضد الليبرالية الجديدة.
تحول قوى وطنية واجتماعية ديمقراطية إلى النموذج الليبرالي الجديد وكذلك الصعوبات التي تواجهها حكومات الجبهة الموسعة تمثل ظاهرة كبيرة يجب تشخيصها على أنها "خيانة" أو ما شابه ذلك. يجب مواجهة هذا الفصل من تاريخ اليسار الأمريكي اللاتيني في إطار المتغيرات الكبيرة في علاقة القوى المتهاوية في العالم في العقود الأخيرة.
لا نتحدث هنا عن أي تغييرات، فقد كان في المكان الأول إغلاق الجريدة التاريخية التي افتتحت في نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعادل القوى بين الرأسمالية والاشتراكية. ومع اعتبار أن التقدم في مقاومة الامبريالية والرأسمالية في العقود السابقة قد زاد من هذا الاستقطاب في وقت كانت فيه قوى اليسار في موقع دفاع. وذلك بعد نفاذ المد للانتصار البولشفيكي ومع الاستقرار السياسي في أوروبا وعزل الاتحاد السوفيتي واتبع ذلك بصعود الفاشية إلى الحكم في أوروبا وتحول اليسار إلى موقع دفاعي كما يبدو ذلك في الجبهات الشعبية ضد الفاشية.
إن هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية وتشكيل الحلف الاشتراكي قي أوروبا الشرقية وانتصار الثورة الصينية وعمليات الاستقلال في أسيا وإفريقيا أنتجت حقل مواجهة بين الاشتراكية والرأسمالية وميزان قوى جديد والتوازن بين القوتين العظيمتين. إن تشكيل محور العالم الثالث كان كذلك بمثابة بوادر مستقبلية لصالح مقاومة الامبريالية والرأسمالية.
إن هذه الحقبة التاريخية لموازين القوى السائدة فيها تم إنهاؤها بعد التفكك الذاتي للمعسكر الاشتراكي وكل أثارة السياسية والأيديولوجية، وتحول العالم إلى أحادي القطب تحت تأثير هجوم جديد سياسي وأيديولوجي وعسكري أمريكي.
من نتائج ذلك وكذلك من نتائج الرأسمالية من مفهومها التقليدي إلى الليبرالي الجديد هو إضعاف الأحزاب الشيوعية واعتماد الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية للنموذج الليبرالي الجديد وكسر وحدة اليسار وكذلك ضعف الدول وعدم مقدرتها على تطبيق سياسات تطوير وانعدام الحقوق الاجتماعية للقسم الأكبر من السكان.
يجب أن نضيف إلى الأمور التي ذكرت انتصار النموذج الليبرالي الجديد على المستوى العالمي، ومع نتائج مباشرة في كل دولة، بحيث شمل ذلك التأثير على الطابع الأيديولوجي لليسار نفسه. إن توازن القوى بين الرأسمالية والاشتراكية ظهرت وجهتا نظر حول التناقض الرئيس بينهما على المستوى العالمي، فالمعسكر الاشتراكي كان يركز على التناقض بين مصلحة الشعوب والرأسمالية، أما بالنسبة للمعسكر الرأسمالي فان التناقض كان بين الديمقراطية والدكتاتورية.
إن انتصار المعسكر الرأسمالي مثل كذلك انتصار تفكير وترجمة للأمور، بحيث أصبح القرن العشرون يمثل انتصار الديمقراطية على الديكتاتورية مثل ما كان في النازية والفاشية وبعدها الشيوعية ( مع اعتبار الحركات الوطنية والإسلامية كأشكال لذلك). وانتصرت كذلك فكرة الربط بين الديمقراطية والليبرالية، وخاصة لسيطرتها السياسية والأيديولوجية.
جانب أخر لسيطرة الأيديولوجية الليبرالية الجديدة هو الربط بين فشل النموذج السوفيتي والأزمة الحكومية للدول وذلك لانتقاص دور الدولة. وبالنسبة للأيديولوجيين الكبار لهذا النموذج فان هذا يؤكد على دور السوق الخاص وليس العام وهذا الأخير يجب أن يخصخص. بحيث يحاولون وضع المجتمع المدني ضد الدولة، إن هذه التعريفات تتعلق بمحورين مختلفين، الأول يتعلق بالسوق والتسويق والقوى التي تسيطر في السوق، والأخرى تتعلق بالمؤسسات الأهلية الغير حكومية أو ما يسمى القطاع الثالث.
إن اليسار الأمريكي اللاتيني لم يبقى بعيد عن هذه التأثيرات، بحيث ربط بين تعريف الديمقراطية والديمقراطية الليبرالية، قبل بمبدأ الأزمة المالية الحكومية كإشارة على نفاذ دور الدولة كعامل سياسي واقتصادي واجتماعي مؤثر وأصبحت تمثل تناقض مع المجتمع المدني وتعريفاته من مواطنة واستهلاك وشبكات الخ. وهذه الرؤيا تقبل بمبدأ فقدان العمل لدورة المركزي وذلك باستبدال التعريفات المتمركزة في الاختلافات بين الطبقات إلى نظرية الاستثناء الاجتماعي.
إن التجديد المتمثل في حكومات لولا وتاباري فاسكيز يعتبر خطوة جديدة وذلك بتطبيق الليبرالية الجديدة من قبل القوى اليسارية وذلك عن طريق تطبيق سياسات اقتصادية ليبرالية، الحكومة البرازيلية في البداية حافظت على السياسة الموروثة من الرئيس السابق كاردوسو وذلك منعا لاحتمال عدم استقرار الاقتصاد في المرحلة الانتقالية للحكومة الجديدة، وحتى أن ذلك شمل سياسة مالية حكومية أكثر صرامة من المتبع من الحكومة السابقة، ولكن سريعا أصبحت هذه السياسة هي الطريقة الدائمة المتبعة من هذه الحكومة الجديدة، أما حكومة تاباري فقد اختارت وزير مالية محافظ من الجبهة الموسعة وهو دانيلو استوري وطبقت النظام الموروث والذي يشجع على الضبط الحكومي للمصاريف ويحاول الحفاظ على استقرار العملة أكثر من اهتمامه بالأشكال الاجتماعية.
إن الأثر الأساسي للسياسات الليبرالية الجديدة هو تحديد وتراجع الحقوق الاجتماعية لأغلبية السكان وكذلك فان السياسات الاقتصادية تتعارض مع احتمالات تقديم الأهداف الاجتماعية. وهذا يعني عدم الخروج من النموذج الليبرالي الجديد وعدم تطبيق سياسات تهدف إلى زيادة الحقوق الاجتماعية والحفاظ عليها.
بعد أن أنقسم اليسار اللاتيني الأمريكي بالنسبة لليبرالية الجديدة وحتى أن بعض قواه طبقت هذه السياسات مع بقاء بعض منها في المعارضة لهذا النموذج، حيث أن بعض هذه القوى اليسارية عندما وصلت إلى الحكم كما هو الحال في البرازيل والأوروغواي اعتمدت هذا النموذج الاقتصادي، وهذا يبرهن على أن اليسار الأمريكي اللاتيني يعيش أزمة حقيقية وهي أزمة هوية أيديولوجية ومشروع سياسي وقواعد اجتماعية.
هوية أيديولوجية، لأن الأحزاب اليسارية والتي وصلت إلى الحكم لم تنهي النموذج الليبرالي الجديد ولا قيمه. فهذه الأحزاب لم تظهر صلابة أيديولوجية لوضع سياسات ذات قيم مختلفة أو معاكسة لقيم الليبرالية الجديدة، انه من المؤكد بأن تأثير الليبرالية الجديدة قد أسهم في أضعاف قوى اليسار عندما تخلت هذه القوى عن معارضتها للسياسات الرأسمالية وكذلك تخليها عن حقوق العمال والطبقات الاجتماعية وعمليات تكديس الأموال والتحالفات الاجتماعية، كذلك فقد تأثرت هذه القوى بفكرة أزمة الدولة والحاجة إلى ضبط للسياسة المالية الحكومية للحفاظ على استقرار العملة للوصول إلى تنمية اقتصادية مستدامة.
عند تحجيم الدولة وتحديد تمويلها في المجال الاقتصادي وعند إضعاف قدرة الدولة على اتخاذ القرارات بسبب الانفتاح الاقتصادي وعدم الانضباط وبسبب لعب وسائل الإعلام لدور هام في تحديد الإجماع الأيديولوجي فأننا نتحدث عن النموذج الليبرالي الجديد.
كل ذلك يوضح قبول وجهة نظر الليبرالية الجديدة حول أزمة الدولة وما يتبع ذلك من ضبط السياسات المالية الحكومية واستقرار العملة. وبهذا الشكل يتم الابتعاد عن الحاجة إلى إصلاح النظام الضريبي وتوزيع الدخل لتمويل السياسات العامة. لأن التركيز على أهداف بخصوص العملة واستقرارها يجعل من الضروري التنازل عن السياسات الاقتصادية التي تسعى إلى إعادة توزيع الدخل، وعليه وبسبب الديون العامة يصبح الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية أمر لا بد منه وما يتبع ذلك من شروط تضعها هذه المؤسسات الدولية.
وبشكل خاص نلاحظ غياب الأفكار اليسارية المتعلقة بتعميم الحقوق الاجتماعية والإصلاح الديمقراطي للدولة المبني على الأساس الاجتماعي. إذا كانت الليبرالية الجديدة تهدف إلى تحديد الأقطاب من حكومي وخاص فان اليسار يجب أن يحافظ على الهدف الاجتماعي لسياستة وذلك من خلال مبدأ العام مقابل التجاري، فهذا هو الجدول الذي يحدد التحرك المعروف باسم ما بعد الليبرالية الجديدة.
إن القوى اليسارية التقليدية أثبتت حتى ألان أنها قادرة على الخروج من هذا النموذج، بحيث لم يتم حل أي من المشاكل الكبار للقارة والتي زادت مع تطبيق هذا النموذج الليبرالي الجديد. فعندما تعرف معسكر اليسار في هذه الحقبة التاريخية المعاصرة على أنه تجمع كل القوى المضادة لليبرالية الجديدة ولسلطة النظام الرأسمالي.
وعليه هندما لا ينهي أي حزب أو قوة سياسية محسوبة على اليسار سياسة الليبرالية الجديدة عند وصوله للحكم، فان هذا الحزب يعتبر خارجا عن مبادئ اليسار، لأن ذلك يعتبر تطبيق للسياسة الاقتصادية والأيديولوجية لليبرالية الجديدة والتأكيد على هيمنتها على السلطة بدل من محاربتها والعمل على مساءلتها واستبدالها.
إن الذي يمكن أن نسميه أزمة السيطرة على السلطة في اليسار اللاتيني الأمريكي ولربما ينطبق ذلك على مناطق أخرى في العالم، يتميز بعدة مظاهر رئيسية:-
أ. الغياب الفعلي لقوى سياسية تقوم بقيادة العمل على بناء مشروع جديد ومعسكر ما بعد الليبرالية الجديدة.
ب. إضعاف القواعد الاجتماعية التقليدية لليسار مثل الحركات النقابية وعمال القطاع العام والمثقفين من الطبقات الشعبية، وهذا يؤدي إلى تجزئة وإضعاف لعالم العمل.
ج. سيطرة الأفكار الليبرالية في معسكر اليسار، وذلك من خلال التعريف الأوتوماتيكي للديمقراطية حسب الديمقراطية الليبرالية، وفي غياب مساءلة الرأسمالية، وفي قبول نماذج اقتصادية مبنية على أساس تجاري، وفي استبدال السياسات العامة والموحدة بالسياسات المركزة، وفي تراجع دور الدولة بسبب أهمية سياسات التحكم في الاقتصاد العام.
ان بناء مشروع سلطة لما بعد الليبرالية الجدية يحتاج قبل أي شيء إلى تحليل للتغييرات الحاصلة في عقود تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة:-
أ. قبل أي شيء اكتشاف الجغرافيا الجديدة لقوة العمل بكل صفاتها وخاصة لكل أولئك الذين يحاولون البقاء في عدة مجالات غير رسمية من المجتمع، بدون ذلك ستبقى قوة العمل تختص بالعمل الرسمي والنقابات، بدون إعادة البناء هذه لن يتم كسر عزلة اليسار عن قواه السياسية والحركات الشعبية.
ب. يجب تحديد طبيعة الحقبة التاريخية التي مثلت سيطرة النموذج الليبرالي الجديد بكل وضوح وتحديد عناصر القوة وعناصر الضعف فيها، وهذا يقتضي فهم القدرة على السيطرة على الحكم لليبرالية الجديدة والذي يتمثل بشكل خاص في التأثير الأيديولوجي، ابتداء من المفتاح الأمريكي للحياة والذي يشغل عقول الناس في كل دول العالم من كل الأعمار والأجناس والأديان.
ج. يجب بناء القوة الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والتنظيمية لكي يتم بناء هذا البديل ما بعد الليبرالية الجديدة.
إن قائمة المتطلبات يمكن أن تكون أطول من ذلك، ولكي نستطيع تلخيصها بالقول أن هدفين أساسيين يجب تطبيقهما لأي قوة يسار في الوقت الحالي:- الأول انه دون نظرية ثورية لا توجد ممارسة ثورية. والثاني في المجتمعات الراقية فان الأيديولوجية المسيطرة هي أيديولوجية الطبقات المسيطرة.
إن هذه الأمور هي مبادئ لأنها موجودة بشكل عميق في الواقع، بالرغم من أننا أحيانا نحاول تجاهلها، إلا أنها تظهر أمامنا كأساسيات النضال ضد المجتمعات الرأسمالية وكنقطة انطلاق لأي ممارسة اجتماعية تهدف إلى إحداث تغيير في الواقع. فالهدف الأول يتحدث عن فكرة أن الممارسة تصحح الأخطاء النظرية وأنه لا بد من تفسير وتحليل تعقيدات الحياة من أجل تحويل النظرية إلى البرامج والاستراتيجيات والتكتيكات ولكي لا تؤدي إلى فشل قوى اليسار في الصمود أمام هذه الضغوط.
الهدف الثاني يمثل في الحاجة إلى بناء مشاريع بديلة، لكي لا نسهل على الاتجاه السائد حاليا وهو القبول بالسياسات الموجودة والمؤسساتية الموجودة وعلى الإجماع المفبرك من قبل وسائل الإعلام الخاصة. وهي تمثل معرفة قوة السيطرة الليبرالية في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، مثل ما يتم الترويج له على تقليد قيم الحياة على الطريقة الأمريكية والذي يخترق كل طبقات المجتمع.
بشكل أساسي نتعامل مع معرفة الواجب الملقى علينا في المستقبل: وهو إيجاد مشروع ما بعد الليبرالية الجديدة وبناء القوة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية القادرة على تحويل هذا المشروع إلى واقع.
حزيران / 2009
أزمة السيطرة على نظام الحكم في أمريكا اللاتينية
بعد أن كانت القارة التي ولدت فيها الليبرالية الجديدة، في تشيلي بواسطة بينوشيتا وفي بوليفيا بواسطة بازارنستو وبعد أن تم تعميم هذا النموذج على كل القارة تقريباً بحيث شمل ذلك قوى وطنية واشتراكية ديمقراطية بحيث تم إنتاج قارة ليبرالية جديدة، إلا أن المنطقة قد تحولت بعد سنوات قليلة إلى المنطقة الأكثر مقاومة لليبرالية الجديدة في العالم: ففي فترة رئاسته الأولى لم يستقبل احد في أمريكا اللاتينية الرئيس السابق كلينتون إلا في المكسيك ورغم انه تم في تلك الفترة توقيع معاهدة التجارة الحرة، والآن عندما يزور الرئيس بوش أمريكا اللاتينية لا يجد من يستقبله، فكل دولة تشكل بؤرة مشاكل بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وذلك لأنه ومع مرور الوقت تزداد الحكومات التي تتحرك بشكل أو بأخر خارج مظلة السيطرة الأمريكية في واشنطن .
أن صفة هذا العصر هي عدم الاستقرار وعدم ثبات الحكومات الليبرالية الجديدة أو البديلة، ويشبه ذلك رغبة القديم في البقاء في وسط الجديد، بينما أن الجديد يجد صعوبات للولادة. وكذلك عندما لا يستطيع الموجودون في القمة الحكم كما في السابق والموجودون في الأسفل لا يريدون أن يستمروا محكومين من أولئك الموجودون في القمة ولكنهم لا يملكون القدرة الكافية لحكم أنفسهم ولا يملكون البدائل الخاصة بهم. أن هذا يشكل أزمة وجهة سياسية بل هو أكثر من ذلك أزمة السيطرة على طريقة الحكم، بحيث لا يستطيع محور الحكم السابق ترسيخ قواعده والاستمرار في الحكم بينما أن البدائل لا تستطيع لحد الآن إيجاد وتثبيت قواعد الدعم الخاصة بها.
في هذا السياق نتحدث عن أزمة نظام الحكم التي تؤثر على شعوب أمريكا اللاتينية، وهذا يشكل الأساس الأخير لعدم الاستقرار بحيث تتشكل حكومات وبعدها حكومات أخرى في دول مثل الإكوادور وبوليفيا والأرجنتين وفي فترات زمنية قصيرة وأمثلة الحكم في فنزويلا وبوليفيا تمثل مادة دسمه للتعلم حول طرق وصعوبات الحكم التي تواجها.
مع ظهور حكومات لولا في البرازيل وتاباري فاسكيز في الاوروغواي فان أزمة السيطرة على نظام الحكم التي تواجها شعوب أمريكا اللاتينية منذ انتهاء الليبرالية الجديدة تصل إلى اليسار فالحكومات التي تم انتخابها على أساس معارضتها للسياسات الليبرالية الجديدة والتي كانت تشكل تاريخياً اليسار في بلادها تنتصر وتهزم الأحزاب التي تمارس السياسات الليبرالية الجديدة، ولكن هذه الحكومات لا تخرج من محور هذا النموذج من السياسات. ففي الأرجنتين وبالرغم من المبادرات الشجاعة للرئيس نوربيرتو كيرشز مثل إعادة هيكلة الديون الخارجية ومعارضته لرفع أسعار الوقود فان حكومة الرئيس كيرشز لا تطبق سياسة اقتصادية مختلفة عن النموذج الليبرالي الجديد. وكذلك فان التحركات في الشارع تشكل جزء من هذه الأزمة وذلك لمحاولة تبديل القوى السياسية بتحركات اجتماعية كما حصل في الإكوادور، حيث أن التحركات الشعبية أسقطت الحكومات التي تطبق سياسات غير شعبية ووصلت إلى القصر الرئاسي وشكلت الحكومات في أكثر من مرة وبعدها تشعر هذه التحركات الشعبية إنها تعرضت لخيانة وتعود إلى المعارضة. وكذلك مشاكل الانقسام في الحركات الهندية الحمراء ومعضلة الانضمام إلى الطرق المؤسساتية بحيث يتم ربط هذه الحركات الاجتماعية مع القوى السياسية أو الانضمام إلى بدائل ضد المؤسساتية وذلك مثل استخدام المشاكل التي تواجه الهنود الحمر في تشياباس وثورة الزاباتيستاس وتعميم هذا النموذج على كل الشعب المكسيكي حيث الحاجة الى عمل سياسي على مستوى الوطن والى نظام جديد والى الحاجة الملحة لتشكيل نظام متجانس بديل وعلى مستوى كل الوطن. وهذا يعتبر بمثابة محاولة أخرى لملئ الفراغ الناتج عن أزمة نظام الحكم في القارة .
أن نموذج نظام الحكم في الرأسمالية المعاصرة هو الليبرالية الجديدة، فاليسار يتجه إلى مقاومة ومعارضة الليبرالية الجديدة فمن الضروري لكي يصبح الإنسان يساري أن يكون قبل كل شيء ضد الليبرالية الجديدة بالإضافة إلى كونه ضد مبادئ وأسس الليبرالية الجديدة والرأسمالية وطرق ما بعد الليبرالية الجديدة، فلم يكن وليد الصدفة أن حدد المؤتمر الاجتماعي العالمي بكل قواه المتعددة معارضة الليبرالية الجديدة كعامل موحد أساسي له .
إن النموذج الليبرالي الجديد شجع على تحكم رؤوس الأموال في كل المجتمعات اللاتينية الأمريكية، فقد تم تطبيق مسيرة رأسماله دولنا بحيث شمل ذلك كل مجالات الحياة وحتى الدولة، بحيث تم إضعاف دور الدولة في التمويل والسيطرة وتضاعفت البطالة واستغلال العمال بكل الطرق.
وكذلك تم إيجاد تغيرات جذرية في موازين القوى بين فئات الشعب وذلك لصالح رؤوس الأموال المحلية والعالمية ضد طبقة العمال والكادحين، فقد جدد اليمين قيمه وقواه وطرق عمله بحيث شكل انفراد بالسلطة لم يكن له مثيل في السابق .
إن رأسمال المادي لا يستطيع بناء القواعد الاجتماعية الداعمة لشرعية وجودة في السلطة، فهو لا يخلق فرص عمل ولكن بالعكس من ذلك يعمل على إلغاء فرص عمل قائمة، ولا يوزع الأموال بشكل عادل بل على العكس من ذلك يجمع الأموال في أيد فئة قليلة، ولا يدعم الحقوق الاجتماعية بل على العكس من ذلك يضعفها. إن الرأسمالية تجعل من التجار الصغار والوسط ضحايا لها، فالقواعد المادية لمسيرتها في إعادة الإنتاج تسمح في أحسن الأحوال بجرف قطاعات رأس المال الكبير باتجاه الاستغلال والاستهلاك الكبير.
كيف يجد هذا النموذج قاعدة دعم له؟ في المكان الأول باستخدام الدعم المرتبط برأس المال الكبير والذي يشارك بشكل جزئي أو كامل عملية تجميع رؤوس الأموال للطبقات الشعبية بحيث يصعب عليها تكوين قوى اجتماعية وسياسية، وكذلك تتمتع بدعم الديكتاتوريات الأيديولوجية لوسائل الإعلام الخاصة، حيث يلعب التلفاز دور حاسم في هذا المجال.
وعلى ذلك نجد أنه يوجد دعم ثلاثي لهذا النموذج: بالطبقات المنتفعة اقتصاديا والدعم الإعلامي لوسائل الإعلام الخاصة والمحتكرة لهذا القطاع وأخيرا تقسيم وتجزئة الطبقات المرتبطة بعالم العمل.
وعليه فان نظام السلطة هذا يؤسس على قاعدة تجزئة المجتمع وفي الوسائل الأيديولوجية حيث يجد الدعم الكبير في هذين العنصرين.
في دائرة تطبيق هذا النظام المالي حصل العالم على نجاحات اقتصادية سريعة، وامتلك زمام المبادرة باستخدام خطط إصلاحية مستفيد من عدم الانتظام الاقتصادي لنقل التضخم وتحويله إلى عجز كبير جدا في ميزان الحكومات، مما أوصل الدول الأمريكية اللاتينية إلى حد الإفلاس وزاد من اعتماد هذه الدول على المؤسسات المالية الدولية.
إن محاور هذا النموذج الاقتصادي تكمن في استقرار العملة بعد موجة التضخم الخارجة عن السيطرة، وكذلك في دعم الفئات المسيطرة من كبار رجال الأعمال والمؤسسات المالية والتجارية الدولية وكذلك دعم وسائل الإعلام الخاصة لهذا النموذج. وكذلك يعتمد على بعض الأطراف من اليسار التقليدي وكذلك على تجزئة المجتمع بطبقاته الشعبية عن طريق البطالة والتوظيف وظروف العمل السيئة.
وبالرغم مما ذكر سابقا ومن موجة الغبطة التي شعر بها إتباع هذا النموذج في أواسط التسعينيات، مستفيدين من انتهاء الدور الاشتراكي ومن تعاظم دور الاقتصاد الأمريكي لفترة قصيرة وعلى أساس الأوهام بإيجاد اقتصاد جديد، فان استمرار الأزمة أدى إلى نهاية هذا النموذج. في المكان الأول الأزمة المكسيكية عم 1994، وبعد ذلك الأزمة البرازيلية عام 1999 والأزمة الأرجنتينية عام 2001. وهذا يوضح أن أكبر ثلاث اقتصاديات في القارة تعرضت للأزمة بسبب تطبيق النموذج الجديد، وذلك بعد أن تم اعتبار المكسيك نموذج للنجاح من قبل المؤسسات العالمية وبعد أن اعتبرت الأرجنتين نموذج معبر عن الليبرالية الجديدة في القارة.
عدة حكومات – أكثر من عشرة – تم استبدالها في السنوات الأخيرة في أمريكا اللاتينية والكاريبي – في دول مختلفة مثل الأرجنتين والأكوادور وبوليفيا والبيرو وذلك يشكل دليل على انتهاء النموذج الليبرالي الجديد وهذه الحكومات هي حكومات وعدت بالخروج من هذا النموذج ولكن لم تقم بذلك أو استمرت في تطبيقه. فكل هذه الحكومات تفقد شرعيتها بسرعة كبيرة وتتعرض لضغط التحركات الشعبية حتى تصل إلى الاستقالة.
إن هذه الأزمات أدت إلى انتهاء هذا النموذج بالرغم من اعتماده على قواعد اجتماعية محددة ومحصورة لأن نظام سلطة رأس المال لا يبني قواعد اجتماعية واسعة لتمرير شرعية معتمد عليها. وعلى العكس من ذلك فان النموذج الاقتصادي الذي يبنى على أساس رأس المال واستغلال الاستهلاك الخاص بالطبقات العليا من السوق ولا يشترط توزيع الدخل ويحاول زيادة قدرات الاستهلاك للطبقات الشعبية والوسطى لن تكون له قواعد شعبية.
بهذه الطريقة تكونت أزمة السيطرة على نظام السلطة في أمريكا اللاتينية، بحيث يكون هناك نزاع بين الجديد والقديم، بين نموذج استنفذ ويحاول البقاء وبين عالم جديد لم يجد حتى الآن طرق وجود للحلول مكان ذلك النظام القديم والمنتهي. وعليه فان أمريكا اللاتينية قد تحولت إلى منطقة عدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الأولى في العالم، وذلك كما يظهر جليا في سقوط عشرة حكومات في السنوات الأخيرة، ولم يسقط أي منها بسبب انقلاب عسكري ولكن كلها لفقدانها شرعيتها الاجتماعية وبسبب ضغوطات التحركات الشعبية في إطار القانون المعمول به.
إن اليسار التقليدي في أمريكا اللاتينية قد انقسم بالنسبة للنموذج الليبرالي الجديد في البداية عندما كانت زمام الأمور في أيدي اليمين وحتى أقصى اليمين كما في مثال بينوشيت، فان اليسار أعلن معارضته لهذا النموذج. ولكن من اللحظة التي اعتمدت الديمقراطية الاجتماعية الأوروبية من خلال الأحزاب الاشتراكية في فرنسا واسبانيا هذا النموذج وكما أكد على ذلك إعلان واشنطن، فان اليسار الأمريكي وخاصة الجهات الوطنية والاجتماعية الديمقراطية اعتمدت هذا النموذج.
إن هذه العملية ابتدأت مع تطبيق كل من كارلوس منعم وكارلوس اندريس بيريز وسالينا سدي جورتاري لهذا النموذج. إن الاشتراكيين التشيليين والمتحالفين مع الديمقراطيين المسيحيين والذين خلفوا بينوشيت في الحكم استمروا في تطبيق النموذج الموروث. وكان أتباع حكومة فيرناندو هنريكي كاردوسو في البرازيل لهذا النموذج استكمال لهذه العملية، وهكذا اتفقت كل الأحزاب السياسية وبالإجماع على هذا النموذج الليبرالي الجديد.
ولكن فوز لولا في البرازيل وتاباري فاسكيز في الأوروغواي أنهى دائرة الانضمام لهذا النموذج، وذلك من قبل قوتين كانتا تلعبان دورا أساسيا في مقاومة هذا النموذج الليبرالي الجديد في العقود السابقة. ومع ذلك، فان أمريكا اللاتينية كانت المنطقة الأكثر تطبيقا للنموذج الليبرالي الجديد في العالم. ومع بعض الاستثناءات مثل كوبا وفنزويلا، يمكننا القول أن هذا النموذج انتشر على عرض وطول القارة، بحيث أصبحت أمريكا اللاتينية مختبر تجارب للنموذج الليبرالي الجديد في البداية وبعدها أصبحت منطقة مميزة باستخدام هذا النموذج.
إن اليسار الذي كان موجودا في أمريكا اللاتينية حتى ذلك الوقت اثبت أنه لم يكن مهيأ لوضع مشاريع بديلة للنموذج الليبرالي الجديد أو لم يكن مهيأ لوضع مشاريع بديلة للنموذج الليبرالي الجديد أو لم يكن يمتلك القوة الكافية لتطبيق هذه البدائل. الاستثناءات كانت في حكومات مثل كوبا وفنزويلا والآن بوليفيا مع احتفاظ كل منها بخصوصياته. فالحكومة الكوبية هي نتاج لمسيرة ثورية حطمت قواعد النظام الرأسمالي والامبريالية في تلك الدولة. أما الحكومة البوليفارية في فنزويلا فقد اعتمدت على عاملين خاصين – الثروات الطبيعية ودعم القوات المسلحة. وكذلك فانه لم يتم في فنزويلا اعتماد النموذج الليبرالي الجديد بالرغم من المحاولات الفاشلة لذلك من قبل حكومات كارلوس اندريس بيريز ورفائيل كالديرا. ان الحكومة البوليفية لايفو موراليس هي الأولى في ارث مجتمع عانى كثيرا من النموذج الليبرالي الجديد والذي يحاول وبشكل صريح تجاوز هذا النموذج.
لمعرفة المشاكل التي كان يواجهها اليسار في الفترة التاريخية المسيطر عليها من قبل نظام السلطة الامبريالي والأمريكي والنموذج الليبرالي الجديد يجب التأكيد على أن نضال اليسار يجب أن ينصب ليواجه سيطرة هذا النموذج.
ويشكل هذان المحورين الرئيسين للسلطة المسيطرة في عالم اليوم وهما قوة المال وقوة السلاح وقوة وسائل الإعلام. فأي مشروع حكم بديل يجب أن يأخذ بالاعتبار هذين المحورين، يمكن القول بأن الحكومة البرازيلية تطبق المحور الثاني في سياستها الخارجية، وبالرغم من وجود مشاكل حتى الآن، ومنها الموقف من هايتي الذي يعتبر الأكثر خطورة. وليس كذلك ما هو متعلق بالمشروع التجاري الذي يتصف به النموذج الليبرالي الجديد ودون الخوض في تحليل إمكانية إعادة هذه النماذج في دول أمريكا اللاتينية نحاول إيجاد الأسباب التي أدت إلى وجود اليسار الأمريكي اللاتيني في الوضع المذكور سلفا والتي تمثل نضال اليسار الأمريكي اللاتيني ضد الليبرالية الجديدة.
تحول قوى وطنية واجتماعية ديمقراطية إلى النموذج الليبرالي الجديد وكذلك الصعوبات التي تواجهها حكومات الجبهة الموسعة تمثل ظاهرة كبيرة يجب تشخيصها على أنها "خيانة" أو ما شابه ذلك. يجب مواجهة هذا الفصل من تاريخ اليسار الأمريكي اللاتيني في إطار المتغيرات الكبيرة في علاقة القوى المتهاوية في العالم في العقود الأخيرة.
لا نتحدث هنا عن أي تغييرات، فقد كان في المكان الأول إغلاق الجريدة التاريخية التي افتتحت في نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعادل القوى بين الرأسمالية والاشتراكية. ومع اعتبار أن التقدم في مقاومة الامبريالية والرأسمالية في العقود السابقة قد زاد من هذا الاستقطاب في وقت كانت فيه قوى اليسار في موقع دفاع. وذلك بعد نفاذ المد للانتصار البولشفيكي ومع الاستقرار السياسي في أوروبا وعزل الاتحاد السوفيتي واتبع ذلك بصعود الفاشية إلى الحكم في أوروبا وتحول اليسار إلى موقع دفاعي كما يبدو ذلك في الجبهات الشعبية ضد الفاشية.
إن هزيمة دول المحور في الحرب العالمية الثانية وتشكيل الحلف الاشتراكي قي أوروبا الشرقية وانتصار الثورة الصينية وعمليات الاستقلال في أسيا وإفريقيا أنتجت حقل مواجهة بين الاشتراكية والرأسمالية وميزان قوى جديد والتوازن بين القوتين العظيمتين. إن تشكيل محور العالم الثالث كان كذلك بمثابة بوادر مستقبلية لصالح مقاومة الامبريالية والرأسمالية.
إن هذه الحقبة التاريخية لموازين القوى السائدة فيها تم إنهاؤها بعد التفكك الذاتي للمعسكر الاشتراكي وكل أثارة السياسية والأيديولوجية، وتحول العالم إلى أحادي القطب تحت تأثير هجوم جديد سياسي وأيديولوجي وعسكري أمريكي.
من نتائج ذلك وكذلك من نتائج الرأسمالية من مفهومها التقليدي إلى الليبرالي الجديد هو إضعاف الأحزاب الشيوعية واعتماد الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية للنموذج الليبرالي الجديد وكسر وحدة اليسار وكذلك ضعف الدول وعدم مقدرتها على تطبيق سياسات تطوير وانعدام الحقوق الاجتماعية للقسم الأكبر من السكان.
يجب أن نضيف إلى الأمور التي ذكرت انتصار النموذج الليبرالي الجديد على المستوى العالمي، ومع نتائج مباشرة في كل دولة، بحيث شمل ذلك التأثير على الطابع الأيديولوجي لليسار نفسه. إن توازن القوى بين الرأسمالية والاشتراكية ظهرت وجهتا نظر حول التناقض الرئيس بينهما على المستوى العالمي، فالمعسكر الاشتراكي كان يركز على التناقض بين مصلحة الشعوب والرأسمالية، أما بالنسبة للمعسكر الرأسمالي فان التناقض كان بين الديمقراطية والدكتاتورية.
إن انتصار المعسكر الرأسمالي مثل كذلك انتصار تفكير وترجمة للأمور، بحيث أصبح القرن العشرون يمثل انتصار الديمقراطية على الديكتاتورية مثل ما كان في النازية والفاشية وبعدها الشيوعية ( مع اعتبار الحركات الوطنية والإسلامية كأشكال لذلك). وانتصرت كذلك فكرة الربط بين الديمقراطية والليبرالية، وخاصة لسيطرتها السياسية والأيديولوجية.
جانب أخر لسيطرة الأيديولوجية الليبرالية الجديدة هو الربط بين فشل النموذج السوفيتي والأزمة الحكومية للدول وذلك لانتقاص دور الدولة. وبالنسبة للأيديولوجيين الكبار لهذا النموذج فان هذا يؤكد على دور السوق الخاص وليس العام وهذا الأخير يجب أن يخصخص. بحيث يحاولون وضع المجتمع المدني ضد الدولة، إن هذه التعريفات تتعلق بمحورين مختلفين، الأول يتعلق بالسوق والتسويق والقوى التي تسيطر في السوق، والأخرى تتعلق بالمؤسسات الأهلية الغير حكومية أو ما يسمى القطاع الثالث.
إن اليسار الأمريكي اللاتيني لم يبقى بعيد عن هذه التأثيرات، بحيث ربط بين تعريف الديمقراطية والديمقراطية الليبرالية، قبل بمبدأ الأزمة المالية الحكومية كإشارة على نفاذ دور الدولة كعامل سياسي واقتصادي واجتماعي مؤثر وأصبحت تمثل تناقض مع المجتمع المدني وتعريفاته من مواطنة واستهلاك وشبكات الخ. وهذه الرؤيا تقبل بمبدأ فقدان العمل لدورة المركزي وذلك باستبدال التعريفات المتمركزة في الاختلافات بين الطبقات إلى نظرية الاستثناء الاجتماعي.
إن التجديد المتمثل في حكومات لولا وتاباري فاسكيز يعتبر خطوة جديدة وذلك بتطبيق الليبرالية الجديدة من قبل القوى اليسارية وذلك عن طريق تطبيق سياسات اقتصادية ليبرالية، الحكومة البرازيلية في البداية حافظت على السياسة الموروثة من الرئيس السابق كاردوسو وذلك منعا لاحتمال عدم استقرار الاقتصاد في المرحلة الانتقالية للحكومة الجديدة، وحتى أن ذلك شمل سياسة مالية حكومية أكثر صرامة من المتبع من الحكومة السابقة، ولكن سريعا أصبحت هذه السياسة هي الطريقة الدائمة المتبعة من هذه الحكومة الجديدة، أما حكومة تاباري فقد اختارت وزير مالية محافظ من الجبهة الموسعة وهو دانيلو استوري وطبقت النظام الموروث والذي يشجع على الضبط الحكومي للمصاريف ويحاول الحفاظ على استقرار العملة أكثر من اهتمامه بالأشكال الاجتماعية.
إن الأثر الأساسي للسياسات الليبرالية الجديدة هو تحديد وتراجع الحقوق الاجتماعية لأغلبية السكان وكذلك فان السياسات الاقتصادية تتعارض مع احتمالات تقديم الأهداف الاجتماعية. وهذا يعني عدم الخروج من النموذج الليبرالي الجديد وعدم تطبيق سياسات تهدف إلى زيادة الحقوق الاجتماعية والحفاظ عليها.
بعد أن أنقسم اليسار اللاتيني الأمريكي بالنسبة لليبرالية الجديدة وحتى أن بعض قواه طبقت هذه السياسات مع بقاء بعض منها في المعارضة لهذا النموذج، حيث أن بعض هذه القوى اليسارية عندما وصلت إلى الحكم كما هو الحال في البرازيل والأوروغواي اعتمدت هذا النموذج الاقتصادي، وهذا يبرهن على أن اليسار الأمريكي اللاتيني يعيش أزمة حقيقية وهي أزمة هوية أيديولوجية ومشروع سياسي وقواعد اجتماعية.
هوية أيديولوجية، لأن الأحزاب اليسارية والتي وصلت إلى الحكم لم تنهي النموذج الليبرالي الجديد ولا قيمه. فهذه الأحزاب لم تظهر صلابة أيديولوجية لوضع سياسات ذات قيم مختلفة أو معاكسة لقيم الليبرالية الجديدة، انه من المؤكد بأن تأثير الليبرالية الجديدة قد أسهم في أضعاف قوى اليسار عندما تخلت هذه القوى عن معارضتها للسياسات الرأسمالية وكذلك تخليها عن حقوق العمال والطبقات الاجتماعية وعمليات تكديس الأموال والتحالفات الاجتماعية، كذلك فقد تأثرت هذه القوى بفكرة أزمة الدولة والحاجة إلى ضبط للسياسة المالية الحكومية للحفاظ على استقرار العملة للوصول إلى تنمية اقتصادية مستدامة.
عند تحجيم الدولة وتحديد تمويلها في المجال الاقتصادي وعند إضعاف قدرة الدولة على اتخاذ القرارات بسبب الانفتاح الاقتصادي وعدم الانضباط وبسبب لعب وسائل الإعلام لدور هام في تحديد الإجماع الأيديولوجي فأننا نتحدث عن النموذج الليبرالي الجديد.
كل ذلك يوضح قبول وجهة نظر الليبرالية الجديدة حول أزمة الدولة وما يتبع ذلك من ضبط السياسات المالية الحكومية واستقرار العملة. وبهذا الشكل يتم الابتعاد عن الحاجة إلى إصلاح النظام الضريبي وتوزيع الدخل لتمويل السياسات العامة. لأن التركيز على أهداف بخصوص العملة واستقرارها يجعل من الضروري التنازل عن السياسات الاقتصادية التي تسعى إلى إعادة توزيع الدخل، وعليه وبسبب الديون العامة يصبح الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية أمر لا بد منه وما يتبع ذلك من شروط تضعها هذه المؤسسات الدولية.
وبشكل خاص نلاحظ غياب الأفكار اليسارية المتعلقة بتعميم الحقوق الاجتماعية والإصلاح الديمقراطي للدولة المبني على الأساس الاجتماعي. إذا كانت الليبرالية الجديدة تهدف إلى تحديد الأقطاب من حكومي وخاص فان اليسار يجب أن يحافظ على الهدف الاجتماعي لسياستة وذلك من خلال مبدأ العام مقابل التجاري، فهذا هو الجدول الذي يحدد التحرك المعروف باسم ما بعد الليبرالية الجديدة.
إن القوى اليسارية التقليدية أثبتت حتى ألان أنها قادرة على الخروج من هذا النموذج، بحيث لم يتم حل أي من المشاكل الكبار للقارة والتي زادت مع تطبيق هذا النموذج الليبرالي الجديد. فعندما تعرف معسكر اليسار في هذه الحقبة التاريخية المعاصرة على أنه تجمع كل القوى المضادة لليبرالية الجديدة ولسلطة النظام الرأسمالي.
وعليه هندما لا ينهي أي حزب أو قوة سياسية محسوبة على اليسار سياسة الليبرالية الجديدة عند وصوله للحكم، فان هذا الحزب يعتبر خارجا عن مبادئ اليسار، لأن ذلك يعتبر تطبيق للسياسة الاقتصادية والأيديولوجية لليبرالية الجديدة والتأكيد على هيمنتها على السلطة بدل من محاربتها والعمل على مساءلتها واستبدالها.
إن الذي يمكن أن نسميه أزمة السيطرة على السلطة في اليسار اللاتيني الأمريكي ولربما ينطبق ذلك على مناطق أخرى في العالم، يتميز بعدة مظاهر رئيسية:-
أ. الغياب الفعلي لقوى سياسية تقوم بقيادة العمل على بناء مشروع جديد ومعسكر ما بعد الليبرالية الجديدة.
ب. إضعاف القواعد الاجتماعية التقليدية لليسار مثل الحركات النقابية وعمال القطاع العام والمثقفين من الطبقات الشعبية، وهذا يؤدي إلى تجزئة وإضعاف لعالم العمل.
ج. سيطرة الأفكار الليبرالية في معسكر اليسار، وذلك من خلال التعريف الأوتوماتيكي للديمقراطية حسب الديمقراطية الليبرالية، وفي غياب مساءلة الرأسمالية، وفي قبول نماذج اقتصادية مبنية على أساس تجاري، وفي استبدال السياسات العامة والموحدة بالسياسات المركزة، وفي تراجع دور الدولة بسبب أهمية سياسات التحكم في الاقتصاد العام.
ان بناء مشروع سلطة لما بعد الليبرالية الجدية يحتاج قبل أي شيء إلى تحليل للتغييرات الحاصلة في عقود تطبيق السياسات الليبرالية الجديدة:-
أ. قبل أي شيء اكتشاف الجغرافيا الجديدة لقوة العمل بكل صفاتها وخاصة لكل أولئك الذين يحاولون البقاء في عدة مجالات غير رسمية من المجتمع، بدون ذلك ستبقى قوة العمل تختص بالعمل الرسمي والنقابات، بدون إعادة البناء هذه لن يتم كسر عزلة اليسار عن قواه السياسية والحركات الشعبية.
ب. يجب تحديد طبيعة الحقبة التاريخية التي مثلت سيطرة النموذج الليبرالي الجديد بكل وضوح وتحديد عناصر القوة وعناصر الضعف فيها، وهذا يقتضي فهم القدرة على السيطرة على الحكم لليبرالية الجديدة والذي يتمثل بشكل خاص في التأثير الأيديولوجي، ابتداء من المفتاح الأمريكي للحياة والذي يشغل عقول الناس في كل دول العالم من كل الأعمار والأجناس والأديان.
ج. يجب بناء القوة الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والتنظيمية لكي يتم بناء هذا البديل ما بعد الليبرالية الجديدة.
إن قائمة المتطلبات يمكن أن تكون أطول من ذلك، ولكي نستطيع تلخيصها بالقول أن هدفين أساسيين يجب تطبيقهما لأي قوة يسار في الوقت الحالي:- الأول انه دون نظرية ثورية لا توجد ممارسة ثورية. والثاني في المجتمعات الراقية فان الأيديولوجية المسيطرة هي أيديولوجية الطبقات المسيطرة.
إن هذه الأمور هي مبادئ لأنها موجودة بشكل عميق في الواقع، بالرغم من أننا أحيانا نحاول تجاهلها، إلا أنها تظهر أمامنا كأساسيات النضال ضد المجتمعات الرأسمالية وكنقطة انطلاق لأي ممارسة اجتماعية تهدف إلى إحداث تغيير في الواقع. فالهدف الأول يتحدث عن فكرة أن الممارسة تصحح الأخطاء النظرية وأنه لا بد من تفسير وتحليل تعقيدات الحياة من أجل تحويل النظرية إلى البرامج والاستراتيجيات والتكتيكات ولكي لا تؤدي إلى فشل قوى اليسار في الصمود أمام هذه الضغوط.
الهدف الثاني يمثل في الحاجة إلى بناء مشاريع بديلة، لكي لا نسهل على الاتجاه السائد حاليا وهو القبول بالسياسات الموجودة والمؤسساتية الموجودة وعلى الإجماع المفبرك من قبل وسائل الإعلام الخاصة. وهي تمثل معرفة قوة السيطرة الليبرالية في المجال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، مثل ما يتم الترويج له على تقليد قيم الحياة على الطريقة الأمريكية والذي يخترق كل طبقات المجتمع.
بشكل أساسي نتعامل مع معرفة الواجب الملقى علينا في المستقبل: وهو إيجاد مشروع ما بعد الليبرالية الجديدة وبناء القوة الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية القادرة على تحويل هذا المشروع إلى واقع.
No comments:
Post a Comment